الإستراتيجية الأميركية في سوريا- من المحاصرة إلى إسقاط النظام

المؤلف: د. الخير عمر أحمد سليمان09.28.2025
الإستراتيجية الأميركية في سوريا- من المحاصرة إلى إسقاط النظام

لا يمكن فهم الأحداث المأساوية التي عصفت بسوريا، والتي أفضت إلى سقوط النظام في غضون فترة وجيزة لا تتجاوز العشرة أيام، بمعزل عن التحولات الجيوسياسية العميقة التي شهدتها، ولا تزال تشهدها منطقة الشرق الأوسط منذ الغزو الأمريكي للعراق عام 2003. هذه التحولات تتضمن تدمير الدولة الليبية، وليس فقط الإطاحة بمعمر القذافي، بالإضافة إلى التخريب الممنهج الذي يطال الدولة السودانية ونسيجها الاجتماعي، فضلاً عن طوفان الأقصى الذي أدى إلى تدمير شامل لقطاع غزة، بشره وحجره.

يضاف إلى هذا المشهد القاتم، العدوان الغاشم على لبنان تحت ذريعة استئصال حزب الله. بيد أن القوة العسكرية الهائلة التي استخدمت في هذا العدوان لم تفرق بين المقاتلين والمدنيين العزل، في ممارسة ترقى إلى مستوى العقاب الجماعي لدولة بأكملها، وليس فقط للضاحية الجنوبية. ولا يمكن إغفال الوضع المأساوي في اليمن، وما يشهده من صراعات دامية منذ زمن بعيد.

إن هذا الترابط الوثيق بين هذه الأحداث المتنوعة زمانًا ومكانًا، يتبدى بوضوح في ذهن أي محلل سياسي يعتمد على نظرة نقدية شاملة، تركز على الصورة الكلية بدلاً من الانشغال بالتفاصيل الصغيرة، بما في ذلك الطريقة الدراماتيكية التي سقط بها بشار الأسد.

يهدف هذا المقال، في إطار تحليله لهذه الصورة الكلية المعقدة، إلى معالجة جانب محدد يتعلق بالإستراتيجية الأميركية في سوريا، إن وجدت، ودورها المحتمل في الأحداث التي جرت. وذلك من خلال الإجابة عن سلسلة من التساؤلات الجوهرية، على رأسها: ما هي الإستراتيجية الأميركية تجاه سوريا؟ وكيف تغيرت مع تطور الأزمة وتعاقب الرؤساء؟ وما هو حجم وطبيعة الدور الذي لعبته واشنطن في سقوط بشار الأسد؟ وما هو تأثير هذه الإستراتيجية على موازين القوى الإقليمية، وعلى الأمن والاستقرار في المنطقة على المدى الطويل؟

الإستراتيجية الأميركية في سوريا

تاريخيًا، تشكل التصور الأمريكي عن سوريا نتيجة لتأثير عدة متغيرات حاسمة:

  • المتغير الأول: كان ذا طابع أمني، تجسد في الصراع المحتدم بين القوتين العظميين خلال الحرب الباردة. في تلك الفترة، طرحت واشنطن مشروع حلف بغداد كأحد الحواجز الأمنية لمنع التوسع السوفياتي المتزايد. ومن المعروف أن سوريا لم تكن جزءًا من هذا الحلف، ونتيجة لذلك، ومع تعمق العلاقة بين دمشق وموسكو، ظهر ما عُرف بمبدأ أيزنهاور عام 1957، بهدف تعزيز الجهود الرامية إلى احتواء النفوذ الشيوعي في المنطقة. هذا يعني أن واشنطن، منذ ذلك الحين، وما تزال، تنظر إلى سوريا (قبل سقوط بشار) كأحد معاقل الممانعة التي تعرقل تنفيذ المشاريع الغربية، وخاصة الأمريكية منها.
  • المتغير الثاني: في سياق الرؤية الأمريكية لسوريا، يتعلق بالتهديد الذي تمثله دمشق لأمن حلفاء واشنطن في المنطقة، وعلى رأسهم إسرائيل. فوجود نظام سياسي ذي توجهات معادية، لا تربطه علاقات ودية مع الغرب، ويتمتع بميزة القرب الجغرافي من تل أبيب، يشكل خطرًا من المنظور الاستراتيجي لأمن إسرائيل. ويتفاقم هذا الخطر من وجهة نظر الولايات المتحدة إذا ترافق مع شبكة تحالفات عسكرية وأمنية مع دول عظمى سابقة وكبرى حاليًا مثل روسيا، والتي انضمت إليها إيران في فترات لاحقة. إن متغير أمن إسرائيل يتعزز بالتجربة التاريخية للحروب والمواجهات التي خيضت ضد تل أبيب، والتي كانت تتم على جبهتين: جنوبية من مصر، وشمالية من سوريا.
  • المتغير الثالث: في إطار تصور أمريكا لسوريا، يرتبط بعامل مكافحة الإرهاب، متمثلاً في تنظيم الدولة الإسلامية. بدأ هذا التنظيم في الاستيلاء على الأراضي في وسط وشمال شرق سوريا عام 2013، ونجح في تنفيذ سلسلة من الهجمات الموجهة ضد عدد من الدول الأوروبية عام 2015، مما دفع واشنطن وحلفائها الأوروبيين والعرب، بالإضافة إلى تركيا، إلى تشكيل تحالف لمحاربة التنظيم في العراق وسوريا. وقد تم تنفيذ أكثر من أحد عشر ألف غارة جوية ضد أهداف تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا وحدها، بينما واصل التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة دعمه للعمليات البرية التي تقوم بها قوات سوريا الديمقراطية في الجزء الشمالي الشرقي من سوريا.

من منظور تحليلي، يمكن القول إن مرتكزات إستراتيجية واشنطن الحالية تجاه سوريا تعتمد على أربعة عناصر جوهرية:

  1. إزاحة النفوذ الروسي من سوريا كخطوة ضرورية لإضعاف محور المقاومة الذي تعتبر دمشق حلقة الوصل الرئيسية فيه.
  2. إخراج إيران من الساحة السورية التي تعتبرها ركيزة أساسية لأمنها القومي في مواجهة إسرائيل والولايات المتحدة.
  3. إضعاف النظام السوري كقوة معارضة لإسرائيل عبر القضاء على شبكة علاقاته مع القوى الإقليمية والدولية، ممثلة في طهران وموسكو.
  4. محاربة الإرهاب المتمثل في تنظيم الدولة الإسلامية وتفرعاته، عبر دعم بعض القوى المقاتلة السورية، متمثلة في قوات سوريا الديمقراطية التي يقودها الأكراد.

وقد استخدمت واشنطن مجموعة متنوعة من الآليات العسكرية وغير العسكرية لتحقيق إستراتيجيتها في سوريا.

أدوات واشنطن في إنفاذ إستراتيجيتها

سعت الولايات المتحدة منذ اندلاع الأزمة السورية في عام 2011 إلى فرض عقوبات اقتصادية مشددة على النظام السوري، بهدف تجريده من الموارد الضرورية التي تمكنه من إيذاء المدنيين، ومحاولة الضغط عليه للسماح بانتقال ديمقراطي سلس. وقد استخدمت الإدارات الأميركية المتعاقبة، بدءًا من الرئيس أوباما، مرورًا بدونالد ترامب وصولًا إلى جو بايدن، عقب اندلاع الثورة السورية، أوامر تنفيذية متنوعة، ولكنها تتفق في جوهرها من حيث تجميد أصول المسؤولين المتورطين في انتهاكات حقوق الإنسان، بمن فيهم الرئيس المخلوع بشار الأسد. وقد شمل نطاق العقوبات حظر الاستثمارات الأجنبية من قبل المواطنين الأميركيين، وتصدير الخدمات، واستيراد النفط السوري، والمعاملات المتعلقة به.

طالت العقوبات المؤسسات الأمنية والعسكرية، وقطاع الطاقة، وقطاع المصارف، والمؤسسات المالية، بالإضافة إلى مؤسسات وأصحاب أعمال دوليين لديهم علاقات وثيقة مع الحكومة السورية. ويلاحظ بوضوح أن العقوبات التي فرضتها واشنطن تستهدف الركائز الأساسية للاقتصاد السوري.

شهدت هذه المرحلة سعيًا أمريكيًا جادًا للحد من أنشطة شبكات الأعمال الدولية المرتبطة بأنشطة مع الحكومة السورية، باستخدام تدابير عقابية صارمة، مثل قانون قيصر، وغيرها من الأوامر التنفيذية. والجدير بالذكر أن العقوبات الاقتصادية، كإحدى الأدوات التي استخدمتها واشنطن، نجحت في الحد من الموارد المالية للنظام، وإضعاف بشكل كبير قدرته على إجراء المعاملات التجارية والنقدية الخارجية.

لم تكتفِ واشنطن باستخدام الأدوات الاقتصادية وحدها، بل لجأت إلى وسيلة أخرى أكثر تأثيرًا في إضعاف النظام، وهي المساعدات العسكرية السخية وغير المحدودة لإسرائيل، وإعطاؤها الضوء الأخضر للمضي قدمًا في محاصرة النظام السوري، وذلك بضرب شبكة تحالفاته العسكرية المتمثلة في الأطراف المقاومة كحركة حماس في غزة، وحزب الله في لبنان.

إن تدمير القوة الصلبة لحزب الله من خلال القضاء على بنيته القيادية، والتي كان على رأس ضحاياها الأمين العام السابق للحزب حسن نصر الله، ونخبة من القيادات الميدانية المحيطة به، كان له الأثر الأكبر في جعل ظهر النظام مكشوفًا في الأيام الأخيرة قبل سقوطه، وبالتالي عدم قدرته على صد تحرك المعارضة المسلحة التي دخلت دمشق دون مقاومة تذكر. الأمر الذي يثير تساؤلًا مشروعًا حول علاقة الإستراتيجية الأميركية بسقوط النظام السوري، مع الأخذ في الاعتبار التقاطعات المعقدة للبيئة الإقليمية والدولية التي أنتجتها تحركات واشنطن على الصعيدين الإقليمي والدولي.

علاقة سقوط النظام بإستراتيجية واشنطن

من يظن أن النظام سقط خلال تحرك عسكري خاطف لم يستغرق أكثر من عشرة أيام، فهو واهم. والصواب، من وجهة نظر تحليلية متعمقة، هو أن النظام سقط بهذه السهولة المدهشة، لأنه خاض حربًا ضروسًا ضد مختلف الكيانات المدنية والعسكرية السورية التي استفادت بشكل مباشر من الضغط الإقليمي والدولي المتواصل على مدى أربعة عشر عامًا تقريبًا. هذا المنطق التحليلي لا ينتقص من الشعب السوري وقواه الحيوية شرف إسقاط بشار الأسد، لأنهم أصحاب القضية الأساسية، وبدون تضحياتهم الجسام، لم يكن ليتحقق مشهد دخولهم دمشق منتصرين على نظام شمولي جاثم على صدر الشعب السوري لأكثر من خمسة عقود.

ومع ذلك، يجب ألا نغفل في هذا السياق العلاقة الوثيقة بين الإستراتيجية الأميركية التي تم تنفيذها وسقوط نظام الأسد، دون التقليل من الأدوار التي قامت بها تركيا، وبعض دول المنطقة. ولكن، كما هو معلوم، يركز هذا المقال بشكل خاص على الإستراتيجية الأميركية وتأثيرها.

إن النظرة الفاحصة والمتأملة تقتضي الأخذ في الاعتبار الدور الكبير الذي لعبه الإنهاك الاقتصادي والعسكري الذي تعرضت له روسيا – كأحد الحلفاء الاستراتيجيين لدمشق – في أوكرانيا على مدى ثلاث سنوات تقريبًا منذ الرابع والعشرين من فبراير/ شباط 2022. هذا الاستنزاف الشديد لروسيا ساهم بشكل كبير في جعلها غير قادرة على تقديم الدعم اللازم لبشار، رغم وجود منظور تحليلي يرجح وجود صفقة ما جعلت الروس يحجمون عن مساعدة الأسد، هذا فضلًا عن بعض تحفظاتهم الشخصية عليه. ولكن الراجح هو أن موسكو كانت منهكة تمامًا، حتى وإن كانت هناك تفاهمات ضمنية بينها وبين واشنطن.

الأمر الآخر الذي يجب ذكره في إطار علاقة إستراتيجية واشنطن بسقوط نظام الأسد بهذه الطريقة، هو التضييق الخانق الذي تم تنفيذه على إيران وحلفائها في المنطقة، والذي يشمل حركة المقاومة الإسلامية حماس، وحزب الله، بالإضافة إلى بعض الجماعات الإيرانية المقاتلة داخل سوريا، والتي كانت هدفًا للعديد من الغارات الجوية الإسرائيلية.

والإشارة إلى تحركات تل أبيب في هذا السياق تعني ضمنيًا واشنطن، وذلك لأن إسرائيل لا تستطيع التحرك بمعزل عن مباركة الولايات المتحدة كضامن لأمنها الاستراتيجي. لقد ارتكزت تحركات نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة على قطع الطريق أمام طهران في سياق مساعيها لإنجاز ما يسمى بالهلال الشيعي الممتد من العراق، مرورًا بسوريا وانتهاءً بلبنان. وقد تعرض هذا المشروع للبتر الكامل، خاصة بعد سقوط الأسد. فحزب الله لم يكن قادرًا على تقديم المساعدة الحاسمة؛ بسبب تداعيات حربه مع إسرائيل، وبالتالي لم يكن قادرًا على تقديم الدعم كما كان في السابق. كل هذه العوامل مجتمعة قادت إلى فتح سوريا على تحديات غير مسبوقة.

الخلاصة:

تُعد إستراتيجية واشنطن التي تم تناولها بالتفصيل في هذا المقال، من أهم المتغيرات التي تفسر سقوط نظام الأسد بالطريقة التي تمت الإشارة إليها. وبالتالي، فإن تصريحات الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب التي قال فيها "إن الولايات المتحدة يجب ألا تتدخل في الصراع في سوريا"، لا قيمة لها من المنظور الاستراتيجي، ولا تعدو كونها ذرًا للرماد في العيون. فالتحرك الأميركي المباشر، المقرون بتحرك عسكري إسرائيلي، تم بتناغم كامل وتنسيق مسبق لتحقيق هدف واحد يتمثل في إعادة رسم خريطة جديدة للشرق الأوسط، تكون فيه الغلبة المطلقة لإسرائيل، ولا مجال فيه لنفوذ أي قوة إقليمية أو دولية خارج التصور الأميركي للشرق الأوسط الجديد.

ولعل أكبر المخاوف القادمة ستأتي من إسرائيل واستهدافها الممنهج للبنية الدفاعية والأمنية للدولة السورية. والخشية الحقيقية تكمن في أن يجد السوريون، بعد إكمال فرحتهم العارمة بسقوط الأسد، أن تل أبيب قد قضت على الأخضر واليابس الذي كان سيحميهم من حر وصيف المؤامرات الإقليمية والدولية.

وفي جانب آخر، يُمثل سقوط نظام بشار الأسد في الوقت الراهن تحديًا جمًا للشعب السوري بكل قواه الحية. وبغض النظر عن الطريقة التي تم بها التغيير، سواء كان بدعم دولي أو إقليمي، فإن قدرة سوريا الجديدة على تجاوز الانقسام الطائفي، المذهبي، الإثني والديني، ستحدد وبشكل كبير قدرتها على بناء تجربة مستقلة تتجاوز بها سنوات الظلم والقهر، فضلاً عن حماية السيادة الوطنية من تدخلات جيش عريض من القوى الإقليمية والدولية التي أسهمت في الإطاحة بالأسد.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة